مصطفى غلمان 
إعلامي وباحث مغربي

يرتقي السلوك الإعلامي في بعديه السوسيولوجي والإتصالاتي إلى الدور الفاعل والجوهري الذي تقوم عليه الرسالة الإعلامية عامة، إذ يحضى في قيمته ومصداقية حضوره النوعي جماهيريا بطفرة نوعية معرفية وخبرية هي بمثابة المجس الذي يجعله جزءا من سياسة التدبير الحكومي، بل قاطرة لتنمية قطاعات مجتمعية واسعة.

   ويحظى الإعلام على ضوء هذه المعطيات بمحددات دقيقة في بنية هذا السلوك، بما هو تأسيس لمحفزات مجتمعية دافعة تروم التوجيه والتثقيف والتأثير في توجهات الجماهير المتلقية. كما أنه في ضوء المتغيرات الجديدة للإعلام التكنولوجي العالي، الذي يفرض سرعة فائقة في تحقيق مواد خبرية عابرة للقارات، أضحى هذا الناموس الإعلامي رافعة لإنجاز تنمية أو عكسها تحت وقع مؤثرات قمينة بالتدافع والسيرورات الإثنولوجية والإجتماعية والثقافية.

     وانطلاقا من هذه الإواليات الفكرية المؤطرة لروافد الإعلام الاستراتيجية يمكن اعتبار تداخل البيئة مع وسائل الإعلام أمرا يقف على مدخلات تجعل من منطقية التأثير عنوانا رئيسا لاستئثار بيني تكون فيه عملية التزاوج عقدا اعتباريا وواجهة للامتداد والتداول، حيث يتصل الإعلامي البيئي ـ إن صحت التسمية ـ بمخ السياسة البيئية، وليس فقط أداة للإعلان عن سياسة بيئية ديماغوجية جاهزة، حيث يقوم الإعلام بأدوار تشي بالمساهمة الفعالة في تنمية الوعي بالبيئة وكذا مشاركتها الوازنة في تطوير السياسات البيئية ومراقبتها وتوجيهها ونقدها، وهو ما يساهم في إحداث تغيير مباشر وعميق في السلوك البيئي للمجتمع، عن طريق التحفيز البيداغوجي للمساهمة في الحفاظ على البيئة وجعلها مركزا أخلاقيا لقيمنا الدينية والوطنية والإنسانية، وطريقا للتنمية، وهو ما يدفعنا للقول أن الإعلام البيئي يخلق حسا بالانتماء الإجتماعي وبالدور المركزي للفرد والعمل الشخصي في حماية البيئة التي هي في المحصلة ملك مشترك وعلامة حضارية قمينة باستحضار التاريخ وسيرورته الإيجابية.

     ويمكن في هذا الصدد استحضار نظرية التأثير الإعلامي في سوسيولوجيا الاتصال لأنها حقيقة بتضمين موضوعنا الراهن البيئي، انطلاقا من مؤسسات هذا التأثير وخلفياته الاجتماعية والنفسية والثقافية وانتهاء بخصوصياته الوظيفية التي تتصادى وعمليات التعليم والتربية – وهو موضوع إشكالي آخر يمكن مقاربته في مناسبة قادمة ـ 

    في علم الاجتماع الإعلامي كما هو معروف ينبني التأثير الإعلامي على فرضية فكرية تذهب إلى إقامة جسر من الثقة القوية في خلق تشابه واضح من السلوك وطريقة التفكير بين المرسل والمستقبل مختلف تماما عن منهجية التأثيرات التعلمية التعليمية  فهما واكتسابا للمعلومات وتجاذبها، مع العلم أنه لحد الآن لا توجد نظرية تقدم تحليلاً كاملاً لتأثيرات الاتصال ولا يزال الجدل قائمًا بين الباحثين حول تأثير الإعلام في الحياة المعاصرة .

     بيد أن هذه الجدلية السوسيوـ ثقافية تركن في النهاية إلى مطابقة واقع التأثير بالأخلاق البيئية، يتمكن الإعلامي كوسيلة خطابية تثاقفية إلى إشاعتها كواجبات قيمية روحية حيال الحيوانات والنباتات والمنظومات البيئية. يقول المفكر الأمريكي مايكل زيمرمان صاحب تحفة "الفلسفة البيئية من حقوق الحيوان الى الأيكولوجيا البيئية" : " الأخلاق البيئية تؤكد انه يمكن ان يحصل أي تقدم في انهاء الأزمة البيئية عندما نتحدى المعايير الأخلاقية للمركزية البشرية ونوسع الاعتبارية الخلقية لتشمل الكائنات غير البشرية..".

     من هنا يمكن تأويل تشابك العلاقة بين الواقع البيئي وممكنات انفلاته وتعويمه على نحو يصنع الفوارق بين القيم والسلوك الانساني، إلى قصور التأثيرات الخطابية على المستوى الإعلامي السمعي البصري بخاصة، حيث تبقى الأعراف والثقافات المحلية السائدة قابعة تحت ضغط الشرط البشري ذاته ومنحلة بفعل تراكم خلفياته وأبعاده الذاتية والموضوعية.

     في المجتمعات الاوربية الغربية يعترف علماء الاتصال والايكولوجيون والباحثون الإبستمولوجيون وفلاسفة الميتا ـ أخلاق أن تدخل وسائل الإعلام أضحى عبئا ثقيلا على المجتمع، ورقما صعبا في مضمار تشكل اللوبيات التي تدفع بالميديا للخروج من إصحاحاتها في تأطير الذوق وملامسة جذور الإحساس بالمسؤولية البيئية لدى المواطنين. ويذهب هؤلاء المتنورون ألى أبعد من ذلك في دعوتهم الملحة من التحول تدريجيا الى المركزية الايكولوجية على حساب الاخرى البشرية التي راكمت "نذر الشؤم" بتعبير جورج سيشنز  وأفرزت تيارا مصلحيا خاصا بالتدخل في الملكية الخاصة وفي التوسع غير المحدود للشركات ولصناعة الربح.

    ولا أقوم هنا بسوق تجربة فجة أدت فيها الليبرالية الغربية المتوحشة اللابيئية ثمنا خطيرا لم تفلح لحد كتابة هذه السطور في احتوائه وتطويق أضراره، من أجل تقويض مساحات الأهداف النبيلة للإعلام الحر والنزيه، بل لأجل التفكير عميقا في قطائع هذه الماكينات البكماء عديمة الرحمة التي جعلت من إنسان القرنين العشرين والواحد والعشرين جسرا بركانيا للتوحش الإيكولوجي الإعلامي والثقافي، ومكمن نفاياته المسمومة الراجفة التي تقتل في البشرية ليس فقط رئتها وقيمتها الأنطولوجية، بل بهاءها الكينوني وصفاءها الخلقي. 

    لقد كانت جملة الاختراعات البديلة في عالم بيئي يعج قذارة ومنكرات ويفتك بما دون الروح والإحساس بالمسؤولية، مجرد ضبط إيقاع لحشو المزيد من ردات فعل الغوغائيين من أصحاب رؤوس الأموال، فنظروا بوقائية مستنفذة مذهبية السوق الحرة البيئي ووسعوا من استيهاماتهم حتى ركبوا الايديولوجيات السياسية التي تدفع باتجاه تسويق فكرة السوق الخضراء البيئي ثم البيئية الليبرالية والايكولوجيا الاشتراكية والإجتماعية ...إلخ. ولكنها بقيت في العتمات القصية تفرض تعتيما إعلاميا مقصودا ومتواطئا. تجسدت هذه التوابع الغالبة لتحدث ثقبا مشعا في أرياح إعلامنا المغلوب على أمره. فمخلفات التكنواوجيا ومتلاشياتها القادمة من الغرب الأوربي لبلادنا على سبيل التمثيل لا الحصر تعمق من جرح استعاراتنا اللابلاغية تجاه قضية خطيرة ترتبط أساسا بوجود ما يكرس مظاهر انحراف سياستنا البيئية وعدم قدرتنا على إيجاد سبل كفيلة بصد الخسف الإيكولوجي لبيوتاتنا المشرعة. وليس ببعيد ما عمق الخلاف بين مدبري القطاع البيئي في حكومتنا المرحومة في قضية شحنات الزبالة الإيطالية التي دفنت بليل ودبرت تحت كاشفات التخاطر والتنافر وتضييع فرص الإستقلال الإداري والسياسي للبلاد.

    لقد أصبح من الضروري والمؤكد إيفاء سلطة الإعلام الرمزية ما تستحق من نظامية واتساق في لعب دور يكون بمثابة الانخراط في التطور الاجتماعي والتواصل والتنظير المؤسسي، متحررا من السلوك الغريزي النسبي الاستهلاكي، بعيدا عن التراتبية الإدارية والهيمنة السلطوية المقيتة. يتفاعل مع الواقع البيئي بطفراته وسماته البيولوجية ويكون وقاء للصدمات والارتكاسات الناجمة عن تدهور الوعي بالبيئة كسلوك واخلاق، يواكب مستجدات تضخم الأنا الجمعي في التدابير النمطية والعشوائية التي تضر بالسلامة الصحية والبدنية والنفسية للمواطنين، ويقارب بمهنية وحيادية وشفافية انحرافات البيئة والقائمين عليها، ويعبد الطرقات البيداغوجية والثقافية والإعلامية للحؤول دون انفراط العقد الاجتماعي والسلم الاجتماعي بمعزل عن رؤية شاملة ومنصفة.

    صحيح ما قال موراي بوكتشين :"لا يمكن لأي أخلاق أو رؤية لمجتمع أيكولوجي، مهما تكن موحية، أن تكون ذات معنى ما لم تتجسد في سياسة حية. ولا أعني يضيف بوكتشين بالسياسة ممارسة إدارة وحكم الدولة على طريقة من ندعوهم سياسيين، بل يقصد ممثلين منتخبين أو مختارين لصوغ السياسات بماهي المحاور الموجهة للحياة الاجتماعية ولإدارة الشؤون العامة .." ، بل إن المجتمع الإيكولوجي الذي تكون فيه وسيلة الإعلام طلقة في مهب الريح لايصلح أن يستأثر بقيمة التصاقه بالمدينة الديمقراطية ، لأن الرهان على تغييره من الهوامش والقشور لا يؤدي بالضرورة ما يمكن أن يعمل على تصحيح الأخطاء وإزالة الألغام وتنقية الحواشي ووضع الأسس وترسيم حدود الانطلاق.

    من ثمة ندعو كإعلاميين إلى تحرير خطوط التماس بين الإعلام وسياسات الترقيع في مجال يكاد يكون حكرا على من يملك الحق في توجيه بوليصة المال والعتاد والرأسمال الانكفائي المخدوم بإقطاعيات قروسطية تستعمره عقول كومبرادورية منسلخة عن الانتماء للهوية الوطنية والإحساس بالمواطنة. بل نسارع الخطو للتعبير عن فداحة واقعية بيئية تزكم الأنوف وتعيد السؤال الإشكالي إلى محطته الرئيسة :

    كيف يمكن لإعلام لا يتخطى حدود جغرافيته الضيقة بإمكانيات لا تغطي مجاله التعارضي وقوة نفوذه وبساطة مستشعريه وسلبية قابليتهم للتعاطي مع مواضيع مجتمعية مصيرية كالبيئة، كيف له أن يخدم قضية سياسية مركزية استراتيجية؟

    ما مدى مواءمة هذا النوع من الإعلام وتيارات التأثير التي تشرب من الفردية الليبرالية الخارجة عن الحدود المفصلية لبيئة ليست قادرة على تحصين نفسها من الخواء الإداري والقصور التنظيمي والتعاطي مع مستنقذات عصرية متحركة؟

     هل بمقدورنا أن نكشف عن حجم تعاطي إعلامنا المتواضع مع قضية البيئة ومستتبعاتها الاقتصادية والبيئية والثقافية، دون التيه في الخطابات الغبية المكرورة التي تنعق في الحجرات على الكراسي المهترئة، دون وازع يقوي من ملكة أداء الرسالة الإعلامية خارج الرؤية النمطية والفواصل الإعلانية البعيدة عن الرسالة الأخلاقية والسلوك العقلاني الذي يؤشر على المصداقية والصدق والنزاهة وقوة الفكر؟.

     أخيرا إن الحس الإعلامي في بعده التداولي الإيتيكي ليس فقط حسا دافعا للتحرر من المسؤولية الأنية التي تتداعى تحت ضغط الزمن والإنسان. بل فرضا استشرافيا للأخلاق التي لا تتداعى تحت أي تأثيرات أو تغييرات.

    الحس الإعلامي البيئي هو جزء من تلك المساحة الخضراء من روح القائمين على مسؤولية الإعلام، حيث تقيم مباعث الحس الإجتماعي هو الآخر ليوجه ويعدل من القناعات والرهانات، من أجل أن يضمن سيرورته المتيقظة تحت إلهام جناب سعيد يؤثث المعنى الدال على الصداقة الأبدية لبيئة مستدامة وأديمية. 

الورقة التي شاركت بها في ندوة علمية نظمتها كلية الحقوق بمراكش وسلسلة الاجتهاد القضائي، حول "استراتيجية الأمن الغذائي الآليات والرهانات" يوم الاربعاء 16 نونبر 2016 


إرسال تعليق

 
Top