عبد القادر زعري
يحتل المخزن مكانة بارزة في الثقافة السياسية المغربية. بل ربما يحتل لوحده كل الحيز. فالمخزن في الذاكرة والتاريخ والمعيش اليومي رابط بين الثنايا والخلايا والتفاصيل، يحتل شبرا شبرا التاريخ والجغرافية والاجتماع والعمران، والمؤسسات قديمها وجديدها، وجميع عناصر المشهد السياسي.
 لقد راكم المخزن تجربة طويلة من التوسع والانتشار والاختراق والتحكم في الأحداث والمصائر. وقلما تُفَاجئُهُ التقلبات، بل أصبح يستبقها قبل حدوثها، بكفاءة مشهود له بها، على الأقل من الناحية الأمنية وضمان الاستقرار. هذه التجربة مكنته من تجميع قدرة فائقة على تحطيم كل مبادرة تنحو إلى الانعتاق من أسر الماضي والقفز إلى المستقبل.
ورجعية المخزن تعود بالدرجة الأولى في نظر "محمد الطوزي" إلى كون أنه "مفهوم دنيوي من دون أي شحنة دينية ومفتقد لأية صفة أخلاقية سامية. همه الوحيد هو الحفاظ على الأمن والاستقرار". ولأجل ذلك يبحث باستمرار عن سُبل تركيع كل التشكيلات الاجتماعية والهياكل السياسية، وشل كل اتجاه حُر ينحو نحو الانعتاق والتصرف باستقلالية بعيدا عن دائرة التحكم.
والمخزن هو حصيلة تشكيلة من تحالفات مصلحية دون مذهب واضح، هدفه استمرار منطق التحالف. فهو ليس سوى تحالف مصلحي، ولا يعكس أي تيار فكري بناء أو إرادة جماعية إيجابية، ويتلخص همه الوحيد في البقاء لخدمة مصالح الأفراد والجماعات التي يتشكل منها، إذ يعاني من أنانية أعضائه ( جون واتربري، أمير المؤمنين).
إذن فالمخزن لا هو تقدمي ولا هو نهضوي، لا مشروع له سوى خدمة أهدافه ومصالحه. هذه المصالح تتناقض وأي توجه إصلاحي أو نهضوي من شأنه إفراز قوى جديدة خارج السيطرة، فهو يضمن الأمن و الاستقرار ولا شيء آخر بعد ذلك.
ولأجل البقاء والاستمرار وحيدا على منصة القيادة فهو يوظف ما يملكه من "قدرة كبيرة على الاختراق والانتشار على جميع التراب الوطني وفي جميع الأماكن التي تمارس فيها السلطة، سواء كانت إدارية أو عسكرية أو مالية" (الطوزي). وهو يستغل لاستمالة كل العناصر المؤثرة ما يوفره الانتماء لدائرته لها من هيبة وصرامة وإحساس بالرفعة؛ رفعة الانتماء والخدمة والاستعداد الكامل للتنفيذ والانمحاء الكامل للذات أو الأنا.
هذه الجاذبية هي التي حولت عناصر كانت شديدة الكره لكل ما هو مخزني، إلى عناصر مندمجة فيه (مثلا لجنة صياغة دستور 2011، المغرق في الغموض ضمت عناصر يسارية معروفة بجذريتها ومناهضتها للمخزن).
نفس الجاذبية، المقرونة دوما بالتهديد باللجوء للعنف، هي التي وُظفت لاحتواء القوى الاجتماعية والسياسية التي كانت تشكل تهديدا للسلطة من قبائل وزوايا، وهي نفسها لا تزال مشتغلة بثوب معاصر، مثل حرب استنزاف مسلطة على الأحزاب السياسية، إذ حتى المناهضة منها أصبحت مورداً مهما للمخزن، منه يجذب ويستميل العناصر ذات القابلية للعمل بجواره، نحو الانصهار في دواليبه والانتماء إلى حضيرته.
فكل القوى الراغبة في تسويق برامجها ومشاريعها والزحف نحو السلطة لترجمة أحلامها تتعرض للاختراق والاستدراج، الآلية التي تجعل العناصر الراغبة في تدمير النظام عناصر أخرى تخدم وجوده وتدعم استقراره. فالمخزن لا يقبل ميدانا تقف عليه قوة مستقلة تنحو نحو الانعتاق من إرث التقليد. فهو يشل كل محاولة للتغيير أو التقدم؛ يجر إلى الوراء، لأنه متوجس من كل "أمام" لا يتحكم فيه.
والمخزن من أجل مَصَالحه، يستغل وجود العاهل المغربي على رأسه، لمنع أي تقارب بين الملك ومن يحتمل أن يكون وجوده بجانب القصر، خطرا على التحالف المصلحي المخزني. فهو يُصور أعداء المخزن على أنهم "أعداء الملك"، ولا يتخلص من هاته الصفة إلا من خضع لشروطه وانمحى أمامه.
إن سوابق المخزن في كبح كل محاولة للتقدم والنهوض عديدة خصوصا في عهد العلويين الذين صادف عهدهم الاصطدام مع قوة الخارج.
 ففي عهد المولى الحسن الأول كانت حاشيته ومخزنه مكونة من عناصر أسهمت بكثير في إفشال مشروعه التحديثي بإرسال بعثات علمية للخارج. وفي عهد المولى عبد العزيز يرجع لمخزنه الدور في إفشال مشروع العدالة الجبائية الذي عرف بالطموح والتحدي. وفي عهد المولى عبد الحفيظ، نفس الحاشية قامت بنفس الدور لتخريب نفس المبادرة، مما شل حركة المملكة وعجل بسقوطها في فخ الحماية.
عرف المغرب سلاطين مجددين، لكنهم ابتلوا بمخزن يكبح ويعرقل، بل إن المخزن ومنذ عهد المولى الحسن الأول تشكل وإلى غاية عهد محمد الخامس، رحمه الله، من عناصر مربوطة الحبال بالقوى الاستعمارية، استقبلت تدخلات المستعمر بالارتياح وتورطت معه في شراكات ومخالطات تجارية واجتماعية عديدة، كان معها العاهل دوما أمام قوة الأمر الواقع.
الآن نعود لنؤكد أن النظام المخزني يستفيد من مزايا وجوده قرب وحول العاهل المغربي ليفرض تصوره للأمور فهو يعمل على إقصاء كل قوة وليدة يرى فيها تهديدا لمصالحه سواء كانت هذه القوة سياسية أو اقتصادية. فهو لا يسمح بوجود تشكيلة خارج دائرة ضبطه وتحكمه، فالثقافة السياسية السائدة لديه هي في مجملها تتوجس من أي تغيير أو إصلاح مهما كان نوعه، ولا تقبل بوجود قوة إلا إن كان له فيها طرف متحالف معه.
هذه العقلية لا تزال سائدة وتعود إلى العهود الغابرة، عهود التمردات والثورات والفتن وأزمان "السيبة"، حيث كان يرخص العاهل بتجاوز كل الحدود، والتضحية بأي شيء مقابل تحقيق الأمن والاستقرار للدولة، وضمان دوام تدفق الموارد المالية اللازمة لبقاء واستقرار المملكة.    
لقد انجر كثير من الدارسين والباحثين إلى فخ الإغراق في التفاؤل، تحت تأثير ما خلفته أجواء ما بعد دستور 2011، لكن التخريب المتعمد للرغبة الملكية والشعبية في تحقيق الطفرة الديمقراطية والاقتصادية لتجاوز أسباب الأزمة هو دليل على أنه لا شيء قد تغير تحت سماء المملكة، ما دامت طفرة ما بعد الربيع العربي لم تتحقق، وما دامت تجربة حكومة الإسلاميين غارقة في أرقام الفشل وإحصائيات الإفلاس، وما دامت الثقافة السياسية السائدة اليوم لدى العقل الجمعي المخزني، هي نفسها كما كانت، مطبوعة بالخوف من كل جديد والتوجس من كل تغيير، ومسكونة برغبة شديدة في التحكم في كل شيء، و الانتشار الدائم والمتجدد والواسع في كل ثنايا المجتمع، وهو الانتشار الذي لا هدف له سوى شل كل فعل قد يكون مستقلا.

إرسال تعليق

 
Top